عن نقاش مشاركة المدن السورية الكبرى في الثورة

تواجه النّقاشات في الشّأن العام السوريّ، وخاصّة بشأن ثورة العام 2011، مجموعة من المعضلات، لعلّ من أبرزها تغييب الأسباب الاقتصاديّة الاجتماعيّة التي أدّت إلى انتفاض شرائح اجتماعيّة ومناطقيّة انطلاقاً من آذار (مارس) 2011 وما تلاها، في مقابل غياب شرائح أخرى عن المشهد الاحتجاجيّ. إذ يندر أن يتمّ التّطرّق إلى الطّبقات والبنى الاجتماعيّة وشكل النّظام الاقتصاديّ ومؤشّرات التّنمية وعلاقة المركز بالأطراف، في مقابل طغيان الحديث عن الأسباب السياسيّة كالقمع وانعدام الحريّات، والأسباب الثّقافيّة أو الأيديولوجيّة كالديّن والطّائفيّة وقيم الفزعة والتّضامن القرابيّ والنّخوة وغيرها.

كذلك، غالباً ما تتمّ مقاربة هذا النقاش في قوالب جوهرانيّة تسبغ صفات ثابتة وتعميميّة، إيجاباً أو سلباً، على المجموعات البشريّة في البلاد، فكأنّ هذه الصّفات تشمل جميع أفراد المجموعات رغم التمايزات الفرعيّة داخل المجموعة الواحدة من جهة، وأيضاً كأنّها غير قابلة للتّغيّر مع تغيّر الظّروف التاريخيّة السّياسيّة والاقتصاديّة الاجتماعيّة والثّقافيّة من جهة أخرى. هكذا يصبح الحلبيّون أو الشّوايا أو الحوارنة أو الحماصنة أو الدّروز أو الشّوام أو الأكراد أو الحمويوّن وغيرهم من مكوّنات المجتمع السّوريّ كتلاً مصمتة تفكّر بطريقة واحدة، وتتّخذ مواقف ثابتة وتستجيب للمتغيّرات بالشّكل ذاته، سواء كان السّياق هو سوريا الخاضعة للانتداب الفرنسيّ، أو تلك الحاصلة على استقلالها حديثاً، أو الواقعة تحت حكم استبدايّ ممتدِّ لعقود وشهد هو نفسه بعض التّغيرات، أو الثّائرة لمحاولة إنهاء هذا الاستبداد.

ما يزيد طين هذه النّقاشات بلّة أنّها تجري لأغراض الانتقاد والهجوم أو الدفاع والتبرير ومدح الذّات، وليس بهدف فهم ما جرى ويجري في عموم البلاد وتغيير المقاربات بشأنه والتفكير بحلول لمشكلات يتزايد استعصاؤها، ولا بهدف طرح تصوّرات مغايرة ومن ثم محاولة المضيّ قدماً.

كانت الثّورة السّوريّة عام 2011 بمعنىً من المعاني ثورة أطراف (بالمعنى الاقتصاديّ الاجتماعيّ الجغرافيّ وليس بالمعنى الجغرافيّ المباشر حصراً)، أي أنّها، في أحد أوجهها وتمظهراتها وليس في مطلقها، كانت ثورة أرياف ومدن صغيرة وأحياء طرفيّة ضد مدينتي المركز الأساسيّتين دمشق وحلب، وخصوصاً أحياء الطّبقة الوسطى العليا فيهما.

يمكن إجراء مقارنة بسيطة بين خريطة تطورات ما بعد عام 2011 وخريطة احتجاجات وأحداث أواخر السبعينيّات وأوائل الثمانينيّات من القرن الماضي، وستضع هذه المقارنة إمكانية فهم العوامل الاقتصاديّة الاجتماعيّة الثقافيّة في متناول العقل، إذ بالإمكان رؤية ما يقترب من التناقض بين الخريطتين في ظلّ نظام واحد مستمر شهد بعض التّغييرات. فالمناطق الطرفيّة، ريفاً ومدينة، المشار إليها أعلاه لم تكن مشاركتها في الاحتجاجات الأسبق تشبه بأيّ شكل الدّور الأساسيّ الذي لعبته في الاحتجاجات الأحدث (بعد 2011)، بل إن بعضها كان يعتبر خزّاناً بشريّاً للنّظام، هذا على الرغم من ضرورة الإشارة إلى انخراط مدينة حماة في شهور ثورة 2011 الأولى، ومن ثم انكفائها لاحقاً لأسباب مركّبة ليس هنا مقام تفصيلها. يعود هذا التّناقض، في تقديري، إلى الاختلاف الشّاسع بين ظروف المناطق الاقتصاديّة والاجتماعيّة خلال الحدثين الهائلين، والتّحولات التي شهدتها هذه العقود، خاصة في دور الدّولة الاقتصاديّ.

هذا بينما تغطي شجاعة مجموعات صغيرة من أبناء دمشق وحلب، وانخراطهم في أنشطة احتجاجيّة مختلفة الأشكال، على غياب العمق والامتداد الاجتماعييّن لهذه الأنشطة الاحتجاجيّة، بل وحتّى على وقوف شرائح واسعة من المحيط الاجتماعيّ على الضّفة الأخرى.

نُفّذت أنشطة احتجاجيّة بشكل متفرّق هنا وهناك في دمشق وحلب، بما يشمل مظاهرات في مناطق حيويّة وقطع طرقات أحياناً وتوزيع منشورات وطمس أو تشويه صور لرموز النّظام ودعوات للإضراب وأشكال أخرى من الاحتجاجات السلميّة، كلّ ذلك وسط محيط عدائيّ في غالب الأحيان وغياب لحضور العائلة الممتدّة أو العشيرة في الفضاء العام، ما يرفع بالفعل من قيمة شجاعة القائمين عليها ومستوى الخطورة عليهم. إلا أنّ هذه الأنشطة لم يُقدَّر لها، لأسباب ذاتيّة وموضوعيّة، أن تحقّق امتداداً واستمراريّة أكبر مما حقّقتهما. لكنّ مجرّد حضورها، حوّلَ مسألة انخراط المدينتين الكبريين من عدم انخراطهما في الثّورة السوريّة إلى مسألة غائمة وإشكاليّة.

والحال هذا، غالباً ما يتمّ القفز التّبريريّ لمسألة مدى تعمّق الحراك الاحتجاجيّ في دمشق، أو بالأحرى قصوره، بعبارات مثل «سطوة القبضة الأمنيّة في العاصمة»، والتّي تشي أساساً بمدى الجهل بشكل القبضة العسكريّة الأمنيّة في المدن الأصغر وفي الأرياف، حيث تُضاف إلى المراكز الأمنيّة المعتادة (لكلّ جهاز مخابرات رئيسيّ فرعٌ في المنطقة يتماشى وحجمها السكانيّ وموقعها الجغرافيّ) وحداتٌ وألوية تابعة للجيش. في درعا، على سبيل المثال، كان هناك قطعات كاملة عتاداً وعديداً للجيش في قلب المدينة. هذا عدا أنّ هذه القبضة كانت منفلتة من عقالها خارج العاصمة حيث لا توجد عيون ترصد ما يحدث، لا بعثات دبلوماسية، ولا صحافيون عرب وغربيون كان من المعتاد، على قلّتهم، أن تكون أماكن عملهم في دمشق، ولا كتلة برجوازيّة يسعى النظام لاسترضائها أو تحييدها على الأقل.

ما يعمّق مشكلة النّقاش السوريّ الصحيّ كذلك، أو ربما غياب هكذا نقاش، وجود سرديّة شائعة لدى شريحة من السّورييّن تقول بأن النّظام السوريّ اليوم (الرّيفيّ ضمناً) هو امتداد لناصريّة نظام الوحدة بين سوريا ومصر أواخر الخمسينيّات ومرحلة التّأميم، ومن ثمّ مرحلة انقلاب حزب البعث الأولى في السّتينيّات. تبني هذه السردية مظلومية مدينيّة متخيّلة على الضّدّ من نظام «ريفيّ» بالكامل، وهي إن كانت تشتكي من ترييف مفترض للمدينة والفضاء العام في سوريا بُعيدَ وصول البعثيّين إلى السّلطة، ترفض أن ترى «تمدّن» النّظام الحاصل في العقود الأخيرة، وخاصّة بعد وصول بشار الأسد إلى الحكم.

قد يكون العامل الاقتصاديّ هنا مفتاحاً لفهم «التّمدّن» المقصود، ويبدو جديراً الاقتباس من كتاب محمد جمال باروت العقد الأخير في تاريخ سورية: جدلية الجمود والإصلاح، الذي يتناول بشكل أساسي السنوات العشر السابقة على اندلاع الثّورة السوريّة. قد تفيد الفقرة التالية في الإضاءة على تقاطع هذا التمدّن الشّكليّ والمشوَّه للنظام مع تراجع دور الدولة الاقتصادي، وصولاً إلى ثورة الأطراف المشار إليها أعلاه. يقول باروت:

​​«حافظت السياسات التّحريريّة التّسلطيّة على الإطار الكليّ المستقر للاقتصاد السوريّ على حساب نموذج النّمو المناصر للفقراء، الّذي تبنّته الرّؤية المؤسسيّة للخطّة الخمسيّة العاشرة، والتّركيز على قطاع الخدمات على حساب القطاعات الإنتاجيّة، وأنتجت مزيداً من البطالة، وتعميق الفجوات في الدّخل، ورفعت معدّل الفقر، واختلّت عملية التّنمية، لما فيه مصلحة إنعاش المراكز وتهميش الأطراف، وتعزيز نمو المدن المليونيّة وشبه المليونيّة، بينما ظلّت المدن المئة ألفية مهمّشة، تسودها حالات الفقر الماديّ والإنساني، وتمثل الإخفاق التنمويّ الأخطر منذ الاستقلال وحتى يومنا هذا بالعجز عن ردم الهوّة التنمويّة بين المدن المليونيّة والمدن المئة ألفيّة من جهة، وبين المراكز والأطراف من جهة أخرى، الأمر الذي أدى إلى خلق فجوات التنمية المناطقية في سورية. حصدت المدن المليونيّة ثمار النّمو، بينما حصدت المدن المئة ألفيّة والصغيرة أشواكه».

تدريجياً إذاً، تغيّرت القواعد الاجتماعيّة للنّظام السوريّ، وما عاد متكّئاً على الأرياف والبلدات والمناطق التي عرفت شعبيّة واسعة لحزب البعث وانتساباً هائلاً له. وكان من النقاط المفصليّة في هذا الانزياح قانون الاستثمار رقم 10 لعام 1991، ومن ثم التحول الأعرج والمشوّه والتسلطيّ إلى سياسات اقتصاد السوق بعد العام 2000.

بالتوزاي مع ذلك، كانت علاقة النّظام السّوريّ مع المدينة تتغير ببطء، إلى أن اشتملت على شبكة هائلة من العلاقات المتداخلة والمصالح المشتركة بين كبار سياسيي وضبّاط وأمنيي النّظام من جهة وشريحة رجال الأعمال والتّجار وغيرهم من البرجوازيّة السوريّة المدينيّة عموماً من جهة أخرى، وصولاً إلى حالات المصاهرة المباشرة والزّواج بين أبناء وبنات هذه الفئات. إن علاقة بعض أبناء الجيلين الثاني والثالث من مسؤولي النّظام السوريّ ومحاسيبه بالرّيف لا تعدو العلاقة الرومانسيّة الّتي قد تربط مهاجراً بجذوره البعيدة، فعمظم هؤلاء أبناء مدن، نشؤوا فيها ووسط مجتمعها، وتلقّوا تعليمهم في مدارسها، وينتمي عالمهم الرّمزيّ والاجتماعيّ إلى هذه المدن (أمّا التّعامل مع جذورهم الرّيفيّة على أنّها هويّتهم الثّابتة، فهذه مسألة أخرى تتعلّق بمدى «مدينيّة» مدننا وقدرتها على أن تستقبل مختلف التّأّثيرات والهجرات وتصهرها في بوتقتها على ما يفترض بالمدن، وهو نقاش جدير منفصل).

لم يقطع النّظام السّوريّ بالطّبع مع ناصريّة الخمسينيّات وبعث الستينيّات بالكامل، وخاصّة لجهة الإرث الأمنيّ واحتكار الفضاء السياسيّ وجذوره الرّيفيّة، لكنّه ليس نسخةً طبق الأصل عنهما، فعلى صعيد سياساته الاقتصاديّة، على سبيل المثال لا الحصر، وكما تمّت الإشارة سابقاً، انتقل هذا النّظام، وعلى مراحل، من سياسات «اشتراكيّة» إلى سياسات «نيوليبراليّة»، كانت في صلب العوامل التي أدّت إلى انفجار 2011.

لم يعد النظام السوري «ريفيّاً» منذ فترة طويلة، هذا إن سلّمنا بأنّه كان ريفيّاً في فترة ما، مثلما أنّه لم يعد بعثيّاً ربّما منذ أواخر السبعينيّات، ولم يبق من البعث سوى واجهة وأداة، من ضمن أدوات عديدة، لضبط المجتمع وتوزيع المنافع.

بيد أنّ غياب الإقرار الشجاع بالوقائع ونقاشها بهدف تجاوزها، يتم الاستعاضة عنه بالأسطرة، الأسطرة التي تضخّم من قيمة ومعاني أشياء وأحداث غاية في الضآلة: فرفض «جلافة» النّظام في جلسات المقاهي والدّردشات البيتيّة يصبح معارضة أصيلة وفعّالة تشبه المظاهرات، ووجود معارضين في عداد عائلة ما يغدو شريحة اجتماعيّة كاملة ثائرة على النظام، وتنظيم فعاليّات احتجاجية نخبويّة محدودة التأثير يبدو وكأنّه ثورة متكاملة الأركان، وهكذا دواليك.

لا يسهم تضخيم الأحداث في المقاربة الخاطئة لواقع منطقة ما وحسب، إنّما يبخس كذلك من مدى ما تعرّضت له مناطق أخرى، فتبدو مظاهرةٌ شارك بها بضع عشرات في مسجد ما في إحدى المدينتين الكبيرتين، وانتهت بقمعها الوحشيّ، حدثاً تأسيسياً يوازي انتفاض بلدة أو مدينة صغيرة عن بكرة أبيها، ولا تبعد سوى بضعة كيلومترات في الريف الحلبيّ أو الدمشقيّ المجاور.

تطبع هذه الأسطرة الكثير من الأشياء في سوريا وتعيق انتظام النّقاش والتفكير العامّين في مسائلها: الطّائفيّة مثلاً، سواء من حيث القائلين بغيابها على اعتبار أنّ «السّورييّن لطالما تشاركوا كأس عرق» أو المتعاملين معها على أنّها العامل التّفسيريّ الوحيد لكلّ ما تشهده البلاد. ثروات البلاد وموقعها الاستراتيجي والصراع الدّولي عليها. وزنها التاريخيّ ومكانها. أهميّة الحواضر السوريّة الرئيسيّة في عالم اليوم. الثّورة نفسها تتحول إلى أسطورة يغيب معها النقاش العقلانيّ حول أسبابها ومسارها ومصيرها ومراحلها السّلميّة والعسكريّة وخطاياها بحسب رؤية كل فريق مؤيد لهذه المرحلة أو معارض لتلك.

ما يعمّق الأسطرة السوريّة، أنّ النّقاشات حول مختلف قضايا البلاد تجري بين دوائر مغلقة على نفسها، تحوي كل واحدة  منها مجموعات من المتشابهين فكرياً يدردشون فيما بينم، مرتاحين إلى «الحقيقة» التي يمتلكونها، في غياب أيّ محاولة للرؤية بطريقة مغايرة أو الاستماع إلى ما قد يهزّ يقينهم.

خمسة مكاسب حققها الفلسطينيون في التصعيد الأخير

بتقديري الشخصي، حقق الفلسطينيون والقضية الفلسطينية خمسة مكاسب رئيسية خلال التصعيد الأخير والمستمر، بعيدا عن خطابات الانتصار الشعبوية المعتادة من حرب ٢٠٠٦ لحروب غزة الثلاثة بين ٢٠٠٨ و٢٠١٤

المكسب الأول متعلق بهبة مناطق الداخل الفلسطيني، فاللد والرملة ويافا وحيفا وكفر كنا وغيرها ما كانت على خارطة الاحتجاجات الفلسطينية بهذا الشكل أبدا، ولا حتى خلال الانتفاضتين الأولى والثانية، تفاجأت إسرائيل الرسمية والشعبية بهذه التطورات وارتبكت بسببها أكثر من ارتباكها بسبب التصعيد بغزة (بشكل أولي على الأقل)، بالإضافة إلى الزخم الشعبي المهم وتطويرها لأساليب المقاومة السلمية والثقافية، هذه الهبة أزاحت مقولة منتشرة مفادها أن فلسطينيي 48 يفضلون إسرائيل على دولة فلسطينية، وكان مذهلا فيديو لمراسل سي إن إن في إحدى مناطق الـ48 يظهر فيه فلسطينيون شبان يهللون لصواريخ قادمة من غزة باتجاه مناطقهم. مات الكبار ولم ينس الصغار كما كانت تل أبيب تعتقد أنه سيحصل

المكسب الثاني، متصل بالأول، ظهر الفلسطينيون على المستوى الشعبي، متوحدين مرة أخرى، تضامنوا جميعا مع الشيخ جراح ثم مع القدس عموما وصولا لغزة، وشملت التطورات كل فلسطين التاريخية، غزة والضفة والقدس والخط الأخضر، هذا عدا عن حضور الشتات الفلسطيني سواء في دول الجوار أو حول العالم، وبوسائل احتجاج متفاوتة، امتدت من المظاهرات والاعتصامات، مرورا بالإضراب العام، والفعاليات الثقافية والإعلامية، ومن ثم المواجهات مع حواجز القوات الإسرائيلية، وصولا إلى المواجهات العسكرية، وظهرت معه فلسطين أخرى بعيدة عن الزجل والشعر، فلسطين بمطالب سياسية وثقافية وقانونية-حقوقية وحتى اقتصادية

المكسب الثالث إعلامي، ومتعلق تحديدا بالخطاب حول فلسطين في دول غربية، ففيما بقي الخطاب الرسمي فيها ثابتا تجاه إسرائيل، ظهر خطاب آخر جديد تبناه فنانون عالميون ورياضيون وإعلاميون ومؤثرون وكتاب وأكاديميون يطالبون بوضوح بإنهاء معاناة الفلسطينيين المستمرة منذ عقود، ولم يكن الخطاب غائما أو خجولا، بل كان واضحا في المسميات والمفردات، وعلى الصعيد الشعبي، خرجت مظاهرات حول العالم من إندونيسيا إلى كندا، وبعضها، كما في لندن، كان غير مسبوق من حيث الحجم

المكسب الرابع إعلامي كذلك، ظهرت أصوات فلسطينية لشبان وشابات فلسطينيين، قادرة على أن تقدم خطابا متسقا في وسائل الإعلام، لكن ما يحد منه طوفان الخطاب الشعبوي السائد في وسائل الإعلام الجماهيرية ورداءة الإعلام الرسمي الفلسطيني وخطاب سياسييه – كلمة إسماعيل هنية (أبو العبد) في الدوحة وكلمة محمود عباس (أبو مازن) تصلحان للتدريس كمثال للرداءة يجب تجنبه

المكسب الخامس عسكري، مدى وكم الصواريخ التي أطلقتها الفصائل الفلسطينية من غزة كان مختلفا عن الحروب السابقة، لكن هذه النقطة بحاجة لنقاش مطول لأن إعلام “باعة الوهم” يعمل على تضخيمها بشكل مؤذي، الصواريخ ما زالت بدائية، وهي إن تطورت نوعيا بالنظر إلى أنه جرى تصنيعها في قطاع محاصر منذ أكثر من ١٤ عاما، إلا أن قدراتها التدميرية ودقتها ما زالت متواضعة جدا، أغلقت الصواريخ مطار بن غوريون وتسبب بأضرار هناك وهناك، لكن بالمحصلة غزة تواجه أحد أكثر الجيوش تطورا في العالم للأسف، والأمل أن يكون قطاع غزة قادرا كذلك على تطوير قدرات كوادره الطبية ودفاعه المدني من بين أمور أخرى

بقي أن أقول نقطتين باختصار: الأولى تتعلق باستمرار خفوت صوت خطاب حقوقي فلسطيني واضح في معاييره الأخلاقية بخصوص العلاقة مع القوى الإقليمية التي قمعت شعوب جوار فلسطين وما تعانيه هذه الشعوب، في حوار حول موقف روجر ووترز المتناقض فيما يخص سوريا وفلسطين، سمعت جملة من نوع “شو بدي بسوريا هلأ”، أو جملة من نوع “أنا بسجد لمجرم مثل بشار الأسد إذا بيضرب صاروخ على إسرائيل”. هذا الخطاب لا أخلاقي أولا وغير براغماتي ثانيا لأنه منفر وليس جاذب (بالمحصلة اكتسبت المظاهرات الداعمة لفلسطين في دول شمال غرب أوروبا زخما استثنائيا مع وجود كتلة لاجئين سورية كبيرة في هذه الدول- جزء منها فلسطينيون سوريون). لا يمكن التعميم طبعا، هناك أصوات فلسطينية لديها خطاب متسق فيما يتعلق بحقوق الإنسان، لكن بدا واضحا أن هناك من سينسى فورا كل ما يتعلق بمقتلة ليس شعوب دول المنطقة فحسب، بل كذلك فلسطينيي سوريا أو فلسطينيي العراق ووضع فلسطينيي لبنان والجهات التي تقف خلفهذه المآسي

النقطة الثانية تتعلق بالأداء الإعلامي، ظهرت غزة منتصرة منذ يوم المواجهة الثاني لأن صواريخها وصلت إلى تل أبيب، التوحد وشحذ الهمم خلال معركة شيء، وبيع الوهم شيء آخر، الإعلام مصيبة أساسية في القضية الفلسطينية، إعلام لا يتورع عن عرض صور جثث ودماء الضحايا دون أي تقدير لكراماتهم وخصوصياتهم، إعلام طبّع المشاهد مع الجثة الفلسطينية حتى أصبحت معتادة وغير استثنائية (سقط عشرة قتلى إسرائيليين (اثنان منهم من فلسطينيي الداخل ولم نر جثة أي منهم، ولن طبعا) في مقابل نحو أكثر من ٢٤٠ في غزة وأكثر من ٢٠ في الضفة). إعلام الأخبار العاجلة من نوع “صفارات الإنذار تدوي في عسقلان وبئر السبع” كارثة مستمرة يجب تجاوزها.

عن المعتصمين بحَبْل الصنَم

يحتشد طلاب خارج بوابة مدرستهم الثانوية في حي المزة بالعاصمة السورية دمشق، يؤدون بشكل ساخر تصفيقاً طلائعياً. تصفيق وصفير، فيما السيارات تعبر بمحاذاتهم، ومن ثم يؤدون تحية العلم الصباحية، بما يشمل غناء النشيد الوطني “حماة الديار” في الشارع بدلاً من باحة المدرسة الداخلية.

يعود المشهد السابق لاعتصام طلاب من ثانوية “بسام بكّورة”، وفقاً لما نقلته شبكات تواصل اجتماعي مؤيدة للنظام السوري. اتضح لاحقاً أن الفيديو يعود للعام الماضي، لكن وسائل إعلام مؤيدة للنظام تحدثت عن اعتراض راهن ومتجدد لطلاب الثانوية على إقالة مدير المدرسة وسام نوفل، نتيجة نفوذ طالب “مدعوم” بعد مشادة كلامية بين الاثنين. فيما تداولت شبكات أخرى مقطعاً مصوراً يُظهر امتناع العشرات من طلاب الثانوية عن دخول مدرستهم وتناثرهم خارجها، قيل إن تاريخه يعود إلى 23 تشرين الأول/اكتوبر الجاري.

ليست هذه المرة الأولى التي تشهد فيها البيئات المناصرة للنظام، أو تلك التي لم تلتحق بالثورة السورية على أقل تقدير، نشاطاً احتجاجياً. سبق لموالين أن اعتصموا في اللاذقية في العام 2015 للاعتراض على مقتل العقيد في جيش النظام حسان الشيخ، على يد سليمان الأسد، قريب رأس النظام السوري بشار الأسد، بسبب خلاف مروري. Continue reading

عن نظرة ديمقراطيين للإسلام السياسي في سوريا

041115_1636_3القدس العربي/ 16/1/2016

———

شكلت مجزرة حماة في شباط من العام 1982 تتويجاً وختاماً دموياً لمعركة دامت سنوات شنها النظام السوري على حركة الإخوان المسلمين في البلاد.

كانت المعركة معركة استئصال لا حرب إخضاع، كما دلت على ذلك أيضاً أحداث ومناسبات سابقة على مجزرة حماة، منها مجازر سجن تدمر وجسر الشــــغور وحي المشارقة الحلبي (1980)، والقانون رقم 49 القــــاضي بتجريم وإعدام كل منتسب للإخوان، بل إن الحركة وجدت لنفسها طريقــــاً إلى هتــــاف أُجبر طلاب المدارس السوريين على ترديده كل صباح ويقضي بسحق «عصابة الإخوان العميلة».

نجح النظام إلى حد كبير في معركته الاستئصالية تلك مشدداً قبضته على المجال العام بالتوازي مع إفراغ الأخير الممنهج من كل صوت مغاير وقمع كافة التيارات والحركات والأصوات الأخرى، ديمقراطيةً أو يساريةً أو مستقلةً كانت.

لكن عنف النظام تجاه الإخوان بقي الأشد، ذلك إنه إن كان يُمنع على شيوعيين معارضين على سبيل المثال، الانتظام في حركات علنية أو تنظيم تجمعات علنية أو ممارسة نشاط في الشأن العام، وملاحقتهم أمنياً وسجنهم وتعذيبهم إن اقتضى الأمر، فإن هذا الاضطهاد لم يصل حد سن قانون يقضي بالإعدام على مجرد الانتساب إلى الأحزاب الشيوعية المعارضة، وبقي بطش النظام بحق أعضاء المعارضة العلمانية أقل هولاً من بطشه بحق أنصار الإسلام السياسي، بنسخته الإخوانية أو السلفية التي شهدت صعوداً بطيئاً وتدريجياً في سوريا العقود الثلاثة الأخيرة إلى ما قبل اندلاع الثورة.

أضحى غياب اليمين الديني عن المشهد السوري ما قبل الثورة وكأنه من طبيعة الأشياء، وكأن ليس لليمين الديني من وجود، بل إن سوريا كانت الوحيدة من بين الدول المحيطة بها التي لا تعرف حركات إسلام سياسي، بما في ذلك لبنان المحكوم من أجهزة المخابرات السورية وإسرائيل التي عرف عربها حركات من هذا النوع. وكان دالّاً أن يشن النظام السوري حملة اعتقالات في العام 2005 شملت معارضين سوريين علمانيين أعضاء في منتدى الأتاسي على خلفية تلاوة رسالة من المراقب العام لجماعة الإخوان في سوريا علي صدر الدين البيانوني (المقيم في الخارج طبعاً) في ندوة أقامها المنتدى.  Continue reading

كلاكيت: نحن والسعودية وإيران

السعودية1

عنب بلدي، العدد 168

لنفترض على سبيل الجدل، أو على سبيل الحلم ربما، أن نظاماً ديمقراطياً حلّ محل النظام الحالي في سوريا، أي أن حكومة تمثل السوريين بمختلف انتماءاتهم تشكلت، سيقودنا هذا الفرض حكماً للقول إن هذه الحكومة عليها أن تعمل وفق مصالح السوريين كل السوريين سواء في سياساتها الداخلية أو تلك الخارجية، وإن كان من البديهي (لا يبدو هذا بديهياً إلى تلك الدرجة للأسف في سوريتنا) أن أبرز ما يجب على سياسات هذه الحكومة أن تعكسه داخلياً بشكل رئيسي يتمثل في تحقيق العدالة الاجتماعية والسعي لرفاه المواطنين وتطبيق القانون وضمان الحريات وغيرها، فإن السياسات الخارجية لا يبدو أن ثمة بديهي بشأنها حتى الآن، بل على العكس، ثمة انقسام واضح بخصوص العلاقات الخارجية لسوريا، وخاصة على المستوى الإقليمي، وتحديداً النظرة تجاه إيران والسعودية، وهو ما تحاول هذه المقالة أن تقول شيئاً بشأنه.

بداية، لا بد من الإشارة إلى أمرين: الأول هو أن هناك حالة من شبه إجماع متحققة حول طبيعة العلاقات مع إسرائيل، وخاصة في ظل استمرار احتلال الأخيرة لمرتفعات الجولان وإعاقتها لحل عادل للقضية الفلسطينية بما يشمل إقامة دولة فلسطينية ومسألة اللاجئين والقدس. الثاني هو الإشارة إلى أنه لن يكون من مصلحة سوريا بكل تأكيد استعداء أي جهة إقليمية وتوتير العلاقات معها (في حال لم تبادر هذه الجهة إلى ما يدفع لذلك)، كما أنه لن يكون من مصلحة البلاد أن تكون ورقة في محور تتزعمه قوة إقليمية في مواجهة قوة إقليمية أخرى.

وبعد كل هذا التقديم وكل هذه الإشارات، سأقول هنا إنه من الطبيعي أن تملك سوريا الديمقراطية علاقات أوثق مع السعودية من علاقاتها مع إيران وذلك لأسباب عدة، بعيداً عن أي أيدولوجيا دينية أو طائفية أو طبعاً عن علمانية مذهبية، هذه بعضها:

الأول، الأكثر راهنية، يتعلق بالمشروع الإمبراطوري لإيران الراهنة وسعيها للهيمنة على أكثر من دولة في المنطقة، وسوريا منها. على النقيض من ذلك، ليست السعودية خالية من مثل هكذا مشروع وحسب، بل تبدو أضعف من أن تمتلكه أساساً لأسباب سياسية وبشرية وعسكرية.

ثانياً: يعيش في السعودية عشرات الآلاف من السوريين، معظمهم يعملون هناك، عمالاً وسائقين وتجاراً وأطباء ومهندسين وأستاذة جامعات وغير ذلك، هؤلاء كانوا وسيكونون مصدر من مصادر إيرادات الدولة السورية، كما أن الدفاع عن مصالحهم ومتابعة شؤونهم يتطلب علاقات وثيقة مع الرياض، في حين ليس ثمة جالية سورية كبيرة في إيران. Continue reading

كي لا يتكرر انعزال “إعلان دمشق”

الحياة، 26/03/2015

ملاذ الزعبي

أوائل حزيران/ يونيو من العام 2009، شهدت بلدة الرحيبة في ريف العاصمة السورية دمشق مواجهات بين أهالي البلدة والسلطات على خلفية محاولة الأخيرة تنفيذ قرار بهدم عشرات المنازل المخالفة فيها. أدت هذه المواجهات إلى مقتل أربعة من سكان البلدة، بينهم طفل، وجرح عشرات آخرين وفق ما ذكرت حينها مصادر إعلامية تسرب لها الخبر بشكل أو بآخر، فيما لم تحظ هذه المصادمات بتغطية جديرة في الإعلام الرسمي.

هذه الاضطرابات الاجتماعية لم تكن الوحيدة التي شهدتها تلك السنوات، فبعض أرياف محافظة درعا شهد مصادمات بين نازحين من محافظة الحسكة نتيجة الجفاف وأهالي بعض القرى التي استوطن هؤلاء النازحون أراضيها. كانت كل هذه الأحداث، وربما غيرها مما لم نسمع به نتيجة التعتيم الإعلامي، إشارة بارزة إلى الأوضاع المعيشية التي تعانيها قطاعات عريضة من المجتمع السوري وما قد تعكسه هذه الأوضاع من اضطرابات اجتماعية لم يكن من الممكن تجنبها.

ما نريده من استحضار هذه الأمثلة، هو الإشارة إلى أن هذه الأحداث كانت تجري بمعزل عن أي تأثير من قبل أي من تشكيلات المعارضة السياسية، وفي مقدمتها “إعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي”، الذي كان أكبر تحالفات المعارضة تلك السنوات. بالطبع، كانت سنوات القمع المديدة قد فعلت فعلها في قدرة المعارضة على التأثير، خاصة مع غياب الحريات الأساسية ومنع السياسة عن المجتمع، والضربات التي تلقاها الإعلان بالذات عبر اعتقال عدد من أبرز قادته.

لكن محدودية تأثير “إعلان دمشق” كان أيضاً لأنه لم يعط الحيز الكافي للعوامل الاقتصادية الاجتماعية التي كانت تؤدي إلى انحسار القاعدة الاجتماعية للنظام، وبالأخص منذ البدء بتطبيق سياسات الانفتاح الاقتصادي والخصخصة وما نجم عنها من بطالة وتهميش واسع للريف السوري والأحياء الشعبية والمدن غير الرئيسية، مقابل تركز الثروة في يد قلة من مسؤولي النظام ورجال الأعمال. فضّل الإعلان مركزة خطابه حول تغيير السلطة والديمقراطية، وهي أمور، على الرغم من أهميتها وأولويتها، ما كان لها أن تثير اهتمام الطبقات المسحوقة، أو على الأقل كان من الضروري العمل على ربطها المباشر بالحاجات المعيشية الملحة، وهو ما لم يكن. بدا معظم النشاط السياسي المعارض على الرغم من كل تضحياته وشجاعته الاستثنائية نشاطاً نخبوياً ومعزولاً بلا أي حامل اجتماعي. Continue reading

المعارضة السورية وموسكو: مقاربة قرغيزية

الخميس، ١١ سبتمبر/ أيلول ٢٠١٤

عام 2005، أطاحت احتجاجات شعبية عارمة اجتاحت قيرغزستان النظام السلطوي والفاسد للرئيس عسكر أكاييف، عُرفت هذه الأحداث لاحقاً بـ «ثورة التوليب» وصنّفت كثالثة الثورات الملونة التي شهدتها بلدان سوفياتية سابقة بعد «ثورة الورود» في جورجيا عام 2003 و»الثورة البرتقالية» في أوكرانيا أواخر 2004 ومطلع 2005.

البلدان الثلاثة كانت مسرحاً لنفوذ موسكو التقليدي، ولكن فيما انتهجت تبليسي وكييف سياسات ساعية للتحالف مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والخروج من الجلباب الروسي، انتهج النظام القرغيزي الجديد، والذي أتى بزعيمي المعارضة كورمانبك باكاييف وفيلكس كولوف رئيساً ورئيساً للوزراء على التوالي، سياسات متوازنة تجاه موسكو. بل إن العام 2005 تحديداً شهد تطوير روسيا قاعدة «كانت» الجوية العسكرية الروسية – إحدى أبرز قواعد الإسناد الروسي في آسيا الوسطى، فيما احتلت روسيا في الأعوام القليلة التالية المرتبة الأولى من حيث حجم التبادل التجاري الأجنبي مع قيرغزستان.

أستخدم المثال القرغيزي وتبايناته الكبيرة مع المثالين الأوكراني والجورجي في هذه المقدمة، للقول إن تغييراً ديموقراطياً في بنية دولة مقرّبة من موسكو لا يعني بالضرورة تغييراً جوهرياً في تحالفات هذه الدولة الخارجية، أو أن تغييراً لتحالفات وعلاقات خارجية لدولة ما بعد تغيير ديموقراطي فيها قد لا يشمل العلاقات مع روسيا (في المثال القرغيزي نفسه تراجع التعاون الثنائي تدريجياً بين بيشكيك وواشنطن وصولاً لإغلاق قاعدة «ماناس» الأميركية في قيرغزستان العام الحالي).

أستخدم المثال القرغيزي غير البعيد زمنياً للمقارنة أيضاً بالوضع السوري الحالي، فمنذ اندلاع الثورة السورية في آذار (مارس) 2011، اتخذت موسكو موقفاً صلباً إلى جانب حليفها نظام بشار الأسد، توّجته باستخدام حق النقض (الفيتو) أربع مرات لمنع تمرير أي قرار ملزم أو مُدين للنظام في مجلس الأمن الدولي، عدا استمرار الدعم العسكري والديبلوماسي والاقتصادي لدمشق.

لكن كيف تصرفت المعارضة السورية تجاه روسيا؟ على مدى شهور عدة من عمر الثورة السورية لم ينفتح «المجلس الوطني السوري المعارض»، ومن بعده وريثه «الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية» على موسكو، ووصل الأمر إلى اتخاذ مواقف راديكالية ساذجة في الاتجاه المغاير كان أبرزها رفض رئيس الائتلاف الأسبق معاذ الخطيب دعوة الخارجية الروسية لزيارتها أواخر 2012، بل إنه دعا روسيا للاعتذار من الشعب السوري. لاحقاً زار أحمد عاصي الجربا، الذي خلف الخطيب على رأس الائتلاف، موسكو لكن من دون تقديم أي عرض أو ضمان حقيقي لها بخصوص مستقبل العلاقات بين البلدين في حال رحيل نظام الأسد، والأهم بخصوص مستقبل القاعدة البحرية الروسية في مرفأ طرطوس ذي الموقع الاستراتيجي – المنفذ الوحيد لروسيا على البحار الدافئة.

على الجانب الآخر، رمت «هيئة التنسيق الوطنية لقوى التغيير الديموقراطي» بنفسها في أحضان موسكو، منتهجة سياسة غير متوازنة تجاه القوى الدولية والإقليمية، مفضلة انحيازاً مؤدلجاً لمصلحة روسيا على الانفتاح البراغماتي على مختلف اللاعبين المؤثرين في الشأن السوري. والمفارقة أن هذا الانحياز المؤدلج الذي ما زال يتكئ على الإرث السوفياتي عندما كانت موسكو «الأخ الأكبر» للشعوب، يأتي في زمن طغت فيه البراغماتية على السياسة الروسية في عهد فلاديمير بوتين، والمفارقة الأكبر أن هيئة التنسيق قبل غيرها دفعت ثمن تحالفها غير المشروط مع موسكو عندما ضحت بها الأخيرة ووافقت على استبعادها من المشاركة في مؤتمر «جنيف2».

لا تبدو روسيا قابلة لتغيير جذري في موقفها السوري في المدى القريب، لكن انفتاحاً أكبر وأكثر براغماتية من قبل قوى المعارضة السورية على موسكو قد يساعد في تحقيق انفراج في هذا الاتجاه. فروسيا، كغيرها من القوى الدولية، لا مصلحة لها في دولة إسلامية ليست بعيدة من حدودها الجنوبية من جهة، وتضم أعداداً من المقاتلين الشيشان الذين يحملون الجنسية الروسية من جهة أخرى، كما تضم مقاتلين من دول آسيا الوسطى قد يشكلون خطراً على الأمن الروسي في حال عودتهم لبلدانهم. وحصول توافق دولي للإطاحة بالدولة الإسلامية ونظام الأسد معاً ليس مسألة مستحيلة، فالمثال العراقي الذي أطاح رئيس الوزراء نوري المالكي ما زال طازجاً، وإن كانت هنا ثمة حاجة لحصول افتراق بين الموقف الروسي ونظيره الإيراني، وهو أمر ليس بالمستحيل إذا حصل توافق مع القوى الدولية والإقليمية الأخرى (سبق لموسكو أن توافقت مع القوى الدولية البارزة في الشأن الكوري الشمالي والليبي، كما مارست ضغطاً على طهران عام 2004 في سياق ملفها النووي).

قد تستطيع المعارضة السورية المساهمة جزئياً بالدفع نحو هذا التوافق إذا قدمت لروسيا مجموعة من الضمانات بدءاً من مستقبل قاعدتها العسكرية في طرطوس، مروراً بوضع الجالية الروسية في سورية والمواطنين السوريين من حملة الجنسية الروسية، ومن ثم علاقات سورية الإقليمية والدولية، وليس انتهاء بالعلاقات الاقتصادية بين البلدين، وبخاصة في مجال عقود التسليح العسكري والطاقة وإعادة الإعمار. قد لا يكون الأمر بهذه البساطة، لكن لا ضير من المحاولة!

للاطلاع على النسخة الأصلية من المقال اضغط هنا

هل يخسر الكرد بعدم تعلم العربية؟

ملاذ الزعبي 

11 حزيران/ يونيو  2012

 

تعرض الأكراد، كما تعرضت مكونات عرقية وثقافية أخرى سكنت في دول المنطقة المحكومة بأنظمة استبدادية أو غير مكتملة الديمقراطية، إلى سياسات تمييزية وإقصائية وصلت في بعض الأحيان حد محاولات التطهير العرقي والثقافي، بل وربما الإبادة الجماعية.

 وسعى الاستبداد على مدى عقود لتحقيق نوع من الاستيعاب المفروض من أعلى، يفرض من خلاله ثقافة ذات لون واحد على مجتمع متعدد الألوان، ضاربا عرض الحائط بالهوية اللغوية والتراث الثقافي والمنتج الفني والأدبي الصادر بلغة غير لغة البلاد الرسمية، والتي لم يعتمد غيرها لغة رسمية كوسيلة استبدادية لطمس هويات الأقليات العرقية التي تتحدث لغات أخرى.

 وقاوم الأكراد في دول المربع المحيط بمنطقة كردستان، والمؤلف من سورية والعراق وتركيا وإيران، هذه السياسات بطرق متعددة بحثوا من خلالها عن تحقيق نوع من التضامن والاحتفاظ بالثقافة والتمسك بالهوية خشية من ذوبانها وامحائها، إلا أن رد الفعل المقاوم هذا بلغ في بعض الأحيان مبالغ شوفينية، جعلت عدداً من أولياء الأمور لا يكتفي بتعليم أبنائه الكردية وفرض الحديث بها، بل أصبح بعضهم يمنع عنهم تعلم اللغة العربية في رد فعلٍ معاكس لتصرفات الأنظمة القومجية العروبية. Continue reading

عدو «حزب الله» الذي لا ينضب

الأربعاء، ٦ أغسطس/ آب ٢٠١٤

«حزب الله» وكيل إيران في لبنان، هو في ذلك شقيق للنظام السوري، الوكيل العلماني للثورة الخمينية في دمشق، والشقيقان لا يشبهان بعضهما في الوكالة الإيرانية وحسب، بل هما كذلك، وعلى رغم اختلاف السياق وطبيعة النظام السياسي، كيانان يسعيان الى البقاء على رأس السلطة، كل في بلده.

في هذا توسل الحزب اللبناني منهجاً مختلفاً عن شقيقه السوري، لاختلافات في السياق وطبيعة النظام السياسي. ذاك أن النظام الطوائفي في لبنان كان يعني أن يحتاج الحزب أولاً إلى تفوق على الأحزاب والقوى التي يفترض بها تمثيل الطوائف الأخرى، فتحقق للحزب ذلك منذ نهاية الثمانينات من القرن الماضي باحتكاره سلاحاً وقوة عسكرية فاقت بمراحل حتى ما تملكه الدولة اللبنانية. كانت أمام الحزب مهمة أخرى أهم، تتمثل في ضمان ولاء مستمر له من جمهور طائفته حتى لا تتكرر تجارب ميليشيوية لبنانية أخرى.

ذاك أنه بعد 1983، عاش لبنان تجربة الكانتونات التي أنشأتها قوى متحاربة أو متحالفة في الحرب الأهلية. ولكن بعد استقرار كل كانتون على حدوده واقتصاده المافيوي وانتهاء المعارك والمواجهات مع قوى الكانتونات الأخرى، بدأت الشرعية الميليشيوية تتآكل داخل الكانتونات في غياب أي تهديد جدي من الآخر، فلم يعد العدو الخارجي مجدياً، ولم يعد المبدأ البسيط «نحن سنحميك من الآخر الساعي الى قتلك» قابلاً للتطبيق، فمارست هذه الميليشيات عنفاً داخلياً موجهاً نحو من تُدّعى حمايتهم.

لتجنب هذه المشكلة، ستسعى «دولة حزب الله» إلى اختلاق عدو دائم، لا يفنى ولا ينضب، لكنه لن يكون أبداً العدو الإسرائيلي على ما حاولت تصويره الماكينة الإعلامية لمحور الممانعة على مدى سنوات، بل سيبقى العدو الدائم، كما في أي نظام طائفي، متمثلاً بالآخر الطائفي، لا بالآخر الإسرائيلي حتى لو كان الأخير ينتهج سياسات كولونيالية وتوسعية. وكان الربط ضرورياً بين إسرائيل ورموز السنية السياسية في لبنان أو في الخليج لتحقيق أعلى درجات الالتفاف حول الحزب لدى جمهوره، كي تكون المعركة في مواجهة الآخر الطائفي، قبل أن تكون في مواجهة «العدو» الإسرائيلي. الالتفاف الصلب في الحالة الأولى سيكون بديهية غير قابلة للنقاش، والتململ متاح في الحالة الثانية، وبخاصة مع مقدار الدمار الذي كان يلحق بالجنوب اللبناني أو بضاحية بيروت الجنوبية. كان يتم تجنب هذا التململ في سنوات المواجهة مع إسرائيل عبر ربط تل أبيب بتيار المستقبل تارة وبالسلفية الجهادية تارة أخرى أو بالقاعدة أو بما كان يعرف بمحور الاعتدال العربي.

في حالة الثورة السورية، ولتبرير انخراطه في قتالها أمام جمهوره، يستحضر الأمين العام للحزب حسن نصر الله وماكينته الإعلامية خطاب «الحركات التكفيرية» و «حماية المراقد»، وهو خطاب أو تبرير يبدو فاعلاً بعد نحو خمسة عشر شهراً على تحول مشاركة الحزب في الحرب الدائرة في سورية إلى العلن، من دون أدنى تململ من جمهور الحزب الإلهي في مواجهة سيل جثامين المقاتلين المتدفقة من القلمون وحلب وريف دمشق وغيرها. دع جانباً النقاش حول خيار الانتصار للنظام السوري، الذي يعرفه اللبنانيون جيداً، في مواجهة شعبه المنتفض عليه.

أما في ما خص أخبار المشاركة في القتال في العراق، فالمؤكد أن نصر الله في غير مرة أتى على ذكر ما وصفه بالاضطهاد والاعتداءات على الشيعة في العراق وفي باكستان. فهل سيكون من المستغرب أن نرى يوماً جثامين لمقاتلين من «حزب الله» قضوا في بيشاور بعدما ذهبوا للقتال في كراتشي «حماية لأحد المراقد» هناك؟ من يعلم؟

للاطلاع على النسخة الأصلية من المقال اضغط هنا

الساروت الأول بمواجهة الثاني: أخطابه يحتاج الإدانة؟

Image

العربي الجديد- ملاذ الزعبي

29 مايو 2014

يبدو أن آخر أشرطة مؤسسة “بدايات” السورية للفنون السمع-بصرية لن يحظى بالإجماع الذي نالته أشرطة متتابعة، قدمتها المؤسسة على مدار ما يقارب عاما كاملا مضى على انطلاقتها، وحصد بعضها رواجاً كبيراً، منذ فيلم “ميغ” الذي أخرجه ثائر السهلي في مخيم اليرموك، مروراً بفيلم عروة المقداد “بعدنا طيبين” وأغنية “بالذبح جيناكم” التي حصدت نحو 142 ألف متابعة عبر يوتيوب، وليس انتهاء بأغنية “بحب الموت” من إخراج آمن العرند وأداء بتول محمد.

آخر إنتاجات “بدايات” حمل عنوان: “عزيزي الساروت من فمك ندينك”، وعَرَضَ في دقيقتين و37 ثانية التناقض بين محتوى فيديو مبكِّر لأحد أبرز وجوه الثورة السورية عبد الباسط الساروت، وبين لقاء مسجّل معه قبل يوم واحد من خروجه مع مقاتلي المعارضة السورية من الأحياء القديمة في مدينة حمص، في الثلث الأول من شهر مايو/أيار الحالي، وحمل عنوان “كلمة لعبد الباسط الساروت قبل خروجه من حمص المحاصرة”.

الكاتب والمخرج السوري علي الأتاسي، أحد القائمين على “بدايات”، كتب عبر صفحته على موقع فايسبوك ما يبدو أنه ردٌّ على الجدل الذي بدأ يتزايد حول الشريط: “لا أقبل ولن أقبل، لا أغض النظر ولن أغض النظر، لا أبرر ولن أبرر، لا أتسامح ولن أتسامح مع أي كلام طائفي أو عنصري، أو فيه تحريض على الكراهية، كائناً من كان قائله، وكائناً ما كان وضعه النفسي والإنساني، من حقي ومن واجبي كإنسان أن أقول “لا” واضحة وصريحة في مواجهة أي خطاب محمل بالكراهية أو العنصرية أو الطائفية”، لكن منشور الأتاسي دفع لردود وأخد ورد مع ناشطين وفاعلين سوريين آخرين.

توضيح بدايات

في الفيديو القديم، يظهر الساروت متحدثاً بخطاب وطني جامع، يهاجم الفساد ويصف فيه العلويين وغير العلويين بالأخوة، ويحذر من استغلال النظام لهم، بينما في الفيديو الجديد يناشد الساروت تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام- داعش وجبهة النصرة، بل وزعيم تنظيم القاعدة أيمن الظواهري، المساعدة في الحرب على العلويين.

في صفحة المؤسسة على فايسبوك، نشرت “بدايات” توضيحاً مرفقاً: يهمّ فريق “بدايات” أن يشير إلى أنه لم يتم تحريف أي من أقوال عبد الباسط الساروت، وكل ما فعلته “بدايات” هو أنها وضعت الساروت الأول في مواجهة الثاني، احتراماً منها للمبادئ التي قامت من أجلها الثورة السورية.

إذاً، هدف الفيلم واضح وخطابه سهل، بل إنه قد يصلح كمادة تعليمية في مدرسة لليافعين بهدف تعليمهم “لا أخلاقية” التناقض أو الإدانة الواجبة لأصحاب الخطاب المزدوج، ونستشف من التعليق المرفق بالفيلم، أن أحدهم قد خرج عن “المبادئ التي قامت من أجلها الثورة السورية”. وقد يكون من حق، بل من واجب “بدايات” نقد أي خطاب طائفي صادر عن جهات محسوبة على الثورة السورية، فكيف إنْ كان صادراً عن إحدى أيقوناتها”.

الصورة الغائبة

لكن مهلاً، ثمة الكثير مما لا يظهره الفيلم ولا يقوله، أو بالأحرى مما يجب أن يظهره الفيلم وأن يقوله. ثمة بداية سياق زمني يقارب الثلاثة أعوام، انتقل فيها الساروت من الوقوف بجانب الفنانة السورية من منشأ علوي فدوى سليمان، في مظاهرات حاشدة بأحياء حمص الثائرة، إلى الوقوف وحيداً محاصراً وجائعاً لنحو عامين، يقتات غالباً على الأعشاب تحت قصف صاروخي ومدفعي لا يرحم. لم تكن ظروف الساروت هي الوحيدة التي تغيرت في هذين العامين، الثورة السورية بالغالب الأعم انتقلت تدريجياً من المظاهرات السلمية إلى الكفاح المسلح. وكانت حمص بالتحديد من أوائل المناطق التي حمل فيها الثائرون السلاح بعد عنف مفرط ومتكرر من أجهزة النظام الأمنية والعسكرية، تُوّج بعدة مذابح مثل، مجزرة “الساعة” ومجزرة “كرم الزيتون”، والأخيرة حملت بعداً طائفياً بحتاً. ثم تلا كل ذلك تدفق جهاديين سنّة لقتال النظام السوري، ومشاركة علنية لميلشيات شيعية من لبنان والعراق وأفغانستان واليمن إلى جانب النظام السوري.

ما لم تلاحظه “بدايات” هو الوجه المتعب والنحيل للساروت، ذي الاثنين والعشرين عاماً، في فيديو” وداع حمص”، وهو ما لم يظهر في شريط بدايات، إذ اكتفت المؤسسة باستخدام صوته الوارد في التسجيل بدون الاستعانة بأي مادة بصرية من الفيديو. ما لم تلاحظه أيضاً أن حارس “فريق الكرامة” الشاب يحاول استخدام مصطلحات دينية وافدة، بدا واضحاً أنه لا يجيدها فبدلاً من قول “نصيرية” للدلالة على الطائفة العلوية والدارج بين التنظيمات السلفية، يقول الساروت “نصارى”، التي تعني مسيحيين. بل يبدو واضحاً أن نداءه المشترك للبغدادي والجولاني يجهل تماماً أن ثمة معارك شرسة يخوضها الرجلان ضد بعضهما على أكثر من جبهة.

كان من الممكن أيضاً أن يحمل شريط “بدايات” رسائل ومضامين مختلفة لولا عنوانه المباشر. في مهرجان سينما الواقع السوري (DOX BOX) عام 2013 والذي أقيم في عدة عواصم حول العالم، تم عرض مقاطع مختارة من اليوتيوب، حمل إحداها عنوان “لحظات-السياق”، تم عرض مجموعة مقاطع يوتوبية في أحدها نرى متظاهرين في مسائية بمدينة دير الزور يهتفون “أها هية هية.. بدنا نبيد العلوية”، لكن الحكم على هذا المشهد يترك للمشاهد أولاً، فلم يبحث أحد عن إدانة المتظاهرين من فمهم، كما أن السياق الزمني حاضر هنا ثانياً عبر مقاطع أخرى سابقة ولاحقة لهذا المشهد.

بعد عامين من الخذلان، إلى من كانت “بدايات” تتوقع أن يوجه الساروت رسالته؟ للائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة؟ أم للرئيس الفخري لهيئة التنسيق الوطنية في المهجر هيثم مناع؟ أم لرئيس تيار بناء الدولة لؤي حسين؟ أم لتحالف منظمات المجتمع المدني السوري- تماس؟ أم للشاعر الكوني أدونيس؟ هل شاهد فريق بدايات فيلم “العودة إلى حمص”؟

وقد يكون السؤال الأهم: هل خطاب حارس كرة قدم هو من يحتاج الإدانة في ظل الخطابات السوريالية لساسة المعارضة السورية ..أم الفراغ الذي خلفه هؤلاء ليملأه الشاب المنحدر من حي شعبي فقير؟

……………………………………………

للاطلاع على النسخة الأصلية من المقال اضغط هنا