درعا.. دمشق.. وما بينهما

إلى الأصدقاء: محمد أبازيد، محمد محاميد، أسامة مسالمة، محمود صبيحي، رسلان رسلان، أيهم حريري، مهند عللوه، قاسم المصري.

كغيري من سوريين كثر، يملك عديدون منا علاقة ملتبسة مع دمشق، عاصمة البلاد وكبرى مدنها وأشهرها وأكثرها كثافة سكانية.. والالتباس يكمن تحديداً في أن ما أعتبره عدم محبتي أو عدم ارتباطي العاطفي بدمشق من جهة يقابله من الجهة الأخرى واقع أنني عشت بعضاً من أهم سنوات حياتي وتكون شخصيتي ونضجي في هذه المدينة. فإلى جانب كونها مدينة دراستي الجامعية وسنوات العشرينيات، كانت العاصمة السورية هي مدينة دخولي إلى عالم العمل وإلى مهنة كانت غايتي في سنوات المراهقة الأولى. والجامعة والعمل كانا قبل أي شي آخر متاحين في دمشق دون أن يكونا متاحين في مدينتي الأصلية حيث نشأت: درعا. وهذا الأمر كان بداية تفتح ذهني وتشكل وعيي فيما يخص مسألة جوهرية، قد تكون عربية الطابع وربما عالمية إلى حد ما: ثروة المركز ونموه وتهميش الأطراف وتراجعها.

البرامكة – الصورة من صفحة: عدسة شاب دمشقي

والحال أنه حتى قبل انطلاق الثورة السورية عام 2011، لم يعد أي من أصدقاء ورفاق مرحلتي الدراسية يقيمون في درعا ما عدا استثناءات قليلة جداً، فالأغلبية الغالبة منهم ذهبت باتجاه دول الخليج، ومن كان أكثر حظاً وأيسر حالاً توجه إلى أوروبا أو الولايات المتحدة الأميركية، إلى جانب بقية باقية اختارت دمشق مكانا لمواصلة العمل أو الدراسة في مراحلها العليا. وكان هذا الموضوع دائما محل نقاش بيننا نحن أفراد البقية الباقية في دمشق، إذ كنا دائماً نشير إلى أن كافة الخريجين الجامعيين من أبناء جيلنا لا يختارون، أو ربما لم يكن متاحاً لهم أن تكون، درعا مكانا معقولاً لبداية حياتهم المهنية. تراكب هذا الملمح مع ملامح أخرى جعلت دمشق المدينة الأكثر تأثيراً في مسيرتي الذاتية والمهنية: ففي العاصمة مهرجان سينمائي “دولي” يقام كل عامين أتاح لي مشاهدة العشرات من الأفلام من مختلف الأصقاع والعصور، فيما درعا لم تعد تعمل آخر دور السينما فيها منذ ما يزيد على عقدين حينها. وفي دمشق كان بإمكاني مشاهدة مباريات المنتخبات الرياضية السورية الوطنية، بينما لم تشهد درعا في تاريخها أي لقاء رياضي دولي ما عدا استثناءات نادرة في كرة اليد. وفي العاصمة السورية واظبت على الذهاب إلى المسارح وحفلات موسيقية ونشاطات فنية وغيرها من فعاليات لم أعرفها أبداً في مدينتي الجنوبية الصغيرة. وفي دمشق أيضا كان متاحاً أن نخوض تجارب غرامية وجنسية متفرقة وعابرة على الرغم من طابع محافظ وتدخلي عام للمدينة المليونية في مقابل مدينة كانت أشبه ببلدة كبرى أكثر تسامحاً لكن يراقب سكانها بعضهم بعضاً.

بيد أن دمشق أيضا وعلى الرغم من كل هذا كانت مدينة عدائية، سأسمع تعليقات عنصرية وتصورات غريبة وتعميمات فجة بحق الحوارنة (سكان سهل حوران الذي أنحدر منه)، ولن يكون أبدا من السهل علي وعلى رفاقي العثور على منزل لائق لاستئجاره، فالأسعار كانت تحلق عالياً بما لا حمل لنا به وطائفة من الملّاك العقاريين كانت ترفض صراحة تأجير منزل لطلاب خشية أن “يسيئوا لسمعته” عدا عن أصحاب المنازل الذين لا يرغبون إلا بدمشقيين أصلاء كمستأجرين. كانت الأيام الأخيرة من شهر آب- أغسطس والأولى من شهر أيلول- سبتمبر من كل سنة دراسية فصلا من جحيم بالنسبة لي ولرفاقي، إذ كنا نقضي هذه الأيام الملتهبة صيفاً نبحث عن منزل للعام الدراسي الجديد، منتقلين من رفض قاطع لصاحب مكتب عقاري بمجرد تقديمنا لأنفسنا إلى خيبة أملنا من السعر الباهظ لمنزل آخر. ولا أنسى عبارة قرأتها على باب بناء سكني شاهق في حي الميدان تقول بوضوح إنه يُمنع دخول المتسولين ومندوبي المبيعات إلى البناء، وفكرت ملياً بذاك الشاب الذي يعمل مندوباً، محاولاً بيع أي شيء على أمل الحصول على مبالغ أقل ما يقال عنها إنها لا تكاد تكفي لشيء (ربما لم يكن البناء شاهقاً لكنني أحسست يومها بصِغرٍ قاتل).

 هكذا، حادثة بعد أخرى، وتجربة إثر تجربة، ساهمت دمشق في صقلي وتشذيبي، في شحذ وعيي ولفت انتباهي إلى مسائل لم تكن في بالي ولا في بال من هم أكبر مني سناً من المحيطين بي من عائلة وخلان وأقارب وجيران في درعا. كان يزيد من حدة ذلك ما كنت أواجهه من أفكار أصدقائي الدمشقيين وما أخوضه معهم من نقاشات. لم أنشأ في عائلة لديها تصنيفات مناطقية أو طبقية حادة وجاهزة، وربما كان توجه والدي الإسلامي يجعله أميل إلى تصنيف الجماعات والبشر طائفيا لا عرقيا ولا مناطقياً. والحال هذا، لم يكن لدي في سنوات المراهقة أي تصور سلبي عن دمشق أو “الشوام”، على العكس تماماً، كانت العاصمة هي خشبة الخلاص من بحر الفراغ المزمن في درعا.. أهلها متقدمون علينا على الأغلب، ويمكن للمرء فيها أن يعيش حياته بالطول والعرض.. كانت هذه الأفكار هي التي تدور في رأس شاب لم يتجاوز الثامنة عشرة من عمره وبات يستعد للرحيل إلى عالم أرحب وأوسع.. قبل أن تدهسه شاحنة الواقع القاسية.

التصنيف المناطقي إذا، والفارق بين المركز والأطراف، والفوارق الطبقية إلى حد ما، والمدينة الكبرى، والأحداث الثقافية والنشاطات الفنية، كلها كانت مسائل واجهتها للمرة الأولى في دمشق، وهي إلى ذلك كانت المكان الذي سأشعر فيه باغتراب مجتمع تحللت فيه جزئيا بعض الروابط التقليدية كالعائلة الكبرى وحتى الصغيرة أحيانا دون أن يتحول إلى مجتمع فردي ينال فيه الفرد حرياته الاجتماعية (إذا نحينا استحالة الحريات السياسية في وضعنا السوري الاستثنائي طبعا) بشكل واضح وبلا إزعاج. وسيكون الصعود الاقتصادي هو الغاية الوحيدة لأهلوه. هكذا واصلت علاقتي الملتبسة مع دمشق طيلة فترة امتدت نحو عشر سنوات، كانت فيها مدينة عيشي وعملي وأصدقائي، وكانت كذلك مدينة ترفضني، تصفني بـ”الغربتلي” كما تصف مئات الآلاف غيري ممن يشكلون كتلة وازنة من سكانها، دون أن يشكلوا كتلة وازنة في اتجاهها الثقافي السائد إلا ما ندر.

ومع اندلاع الثورة السورية ازدادت العلاقة مع هذه المدينة التباساً، فبينما كانت درعا وبانياس وإدلب وحمص ودير الزور وحماة وريف حلب واللاذقية وغوطة دمشق القريبة وغيرها من مناطق تشتعل وتشعل معها البلاد، كانت بعض أحياء العاصمة السورية ساكنة كالقبور، لكن الأشهر الممتدة طيلة عامي 2011 و2012 كانت كذلك فسحة هلامية سأتعرف فيها على آخرين مقيمين في دمشق يشبهونني، يتوزعون أحياء العاصمة ويشاركونني أفكاري وأحلامي، دون أن نتمكن من التحول إلى مجموعة صلبة واضحة (للإشارة إلى هؤلاء لم أستطع استخدام صفة “دمشقيين” بل “مقيمين في دمشق” فالدمشقي هو فقط المنحدر من أبويين دمشقيين، وفي لندن حيث أقيم حالياً بإمكانك أن تطلق صفة اللندني على أي مقيم في المدينة ولو كان منحدراً من أقصى بقاع الأرض بينما ذلك غير متاح حتى لسكان الغوطة- متنفس دمشق الملاصق لها).

غادرت سوريا، ودمشقها، في الأشهر الأولى من العام 2013، ترقبت قبل ذلك معركة كبرى تجري على أرضها وتزيح النظام الجاثم على صدورنا بلا طائل، أتاح لي الخروج منها أن أشاهد بعضا من هذا العالم، وأدرك كم هي مؤسطرة هذه الدمشق، أقارنها دائماً بحواضر إمبراطوريات سابقة أو بلدان نالت استقلالها بعد الحرب العالمية الثانية، وكثيراً ما خسرت هي في هذه المقارنة، ولغاية انزياح الحكم الأسدي ستبقى العاصمة القاسية لبلد قاس.

One thought on “درعا.. دمشق.. وما بينهما

  1. يتحدث صديقي من درعا عن علاقته الملتبسة مع دمشق وأخال أنه غاب قد عن ذهنه أن علاقتنا جميعاً مع مدننا وحتّى بلدنا سوريّا هي علاقة فيها التباسات أكثر من غراميات المسلسلات التركيّة ولتلك الالتباسات أصول تاريخية نشأت ما قبل القرن العشرين وبعضها وليد عهد الأسد الوحش الذي افترس المدن كلّها وأفشى الفتن. يكمل ويقول بأن ثروة المركز وتهميش الأطراف إنّما هو طابعٌ عالميٌّ وعربيٌّ فها أنا وهو التقينا في المركز الّذي كلما ابتعدت عنه تتراجع الرّفاهية وتتلاشى الخيارات بينما تبدأ بالظهور خصال ومميزات لا تسمح به صراعات المدن الكبيرة التي تجبر الكثير إلا من رحم ربي على التّخلّي عنها فلماذا يعيب على دمشق ما هي ليست متفرّدةً به. يتحدّث صديقي عن معاناة الشّباب الجامعيّين في إيجاد سكن جيد بسعرٍ مناسب بسبب ارتفاع الأسعار عند بداية كلّ فصلٍ دراسي متناسيّاً أنّ هذه ظاهرة اقتصاديّة تتواجد في كلّ زمان ومكان بما فيها القرى الجبليّة الّتي ترتفع فيها أسعار البيوت والبضائع كنشاطِ اقتصادي للاستفادة من موسم السّياحة فأعود وأسأله لماذا يعيب على دمشق ماهي ليست متفرّدةً به. يعيب صديقي على الدّمشقيين غاياتهم الاقتصاديّة وهو الّذي أسلف متحدّثاّ عن نفسه وأصدقائه الّذين تركوا مدينتهم درعا بحثاً عن العلم والعمل.

    بينما هو لا يحبّ دمشق فأنا قد أغرمت بمدينته السمراء منذ وقعت عيني عليها ذات صيف وأدركت أنّ طيبة أهلها وكرمهم كانا سببان كافيان لأعود لزيارتها مرّةً ثانيةً وثالثةً إلى أن ثار أهل درعا وصرت أخجل من خوفي وجبني أمام جسارتهم. وبينما يتّهم دمشق بالعدائيّة لأنّه قد سمع بين حواريها من يذمّ الآخرين ويدعوهم بالحوراني وسأفهم عتبه هذا لكنّني لا أظنّه قد أحسّ بوقع كلمة عزيمة شاميّة كمذمّة لدعوةٍ تخلو من الإصرار الّذي يعكس عادةً كرم أصحاب الدّعوة أو لقب شامي لشخصٍ حريص يتّهم بالبخل أو تجّار شوام لوصف شخصٍ يغاير كلامه ليصل لمصالحه الفرديّة دون أي صدقٍ أو شفافيةٍ فيما يقول. لم ينشأ صديقي في عائلة لديها تصنيفات مناطقيّة أو طبقية حادة وجاهزة ولكنّه لم يواجه تلك النّظرة الّتي رمقني بها أصدقائي الجامعيّين حين أجبتهم على سؤالهم الّذي فاجأني أول مرّة عند دخولي الجامعة: من وين أنت؟ ولم يعرف أنّ والدي الّذي كنت أظنّه مناطقي يختلف مع أيّ شخصٍ بما فيهم الدّمشقيّون الّذين لا يتّفق معهم بالقيم أو يهدّدون كرامة أحداً من عائلته ولم يعرف أنّني ما أغرمت يوماً إلّا بشبابٍ “غير شوام” وما حلمت بالزواج من سواهم. وأنا أتمّ قراءة ما كتبه صديقي في ذمّ دمشق بدأت أفهم كلّ الضّبابيات السّابقة فلا أظنّه قد عرف دمشقيين حقّ المعرفة فكيف يعرفهم وهو لا يدري أنّ ارتباطهم العائليً هو بوصلتهم خاصّةً لأنّ ذلك يرتبط عادةً بدعمٍ مادي أو هو مفتاح لخلق علاقاتٍ اجتماعيّةٍ لتوسيع دائرة المعارف والأصحاب فكيف يتخلّون عن عزوتهم وسندهم في السّراء والضّراء.

    يظنّ صديقي أنّ دمشق قد رفضته وقست عليه وهو لا يعرف أنّ دمشق كانت تخبو وبدأت تفقد رونقها الّذي سلبها إيّاه الأسد رويداً رويداً فقد أحكم قبضته عليها أكثر من أيّ مدينةٍ أخرى وتغلغل فيها ولعلّ ذلك لأنّها خوفه الأكبر. سعيدةٌ أنّ صديقي يحسّ بالانتماء للندن الّتي تمنحه اسمها ولكن لابدّ لي أن ألفت انتباهه للسّياق التّاريخي والاقتصادي والجغرافي والأهم السّياسي لكلا المدينتين وأنّه لو ابتعد تدريجيّاً عن لندن لسوف يجد نفسه في مكانٍ يصنف البشر حسب لونهم وعرقهم ودينهم وتصنيفات عديدة لاإنسانيّة. هذا التغلغل هو ما دفع الكثير من الدّمشقيين ليثوروا بصمت فرغم أنّهم لم يملؤوا السّاحات ولم يرفعوا الرّايات لكنّهم كانوا عصب تمويلٍ ضخمٍ من دمشقيّين في الدّاخل والخارج على حدّ سواء وهذا التغلغل أيضاً هو ما جعل دمشق تضيق حتّى بأبنائها الّذين سكنوا فيها منذ عقودٍ غابرةٍ. من الظّلم أن نجعل دمشق شمّاعةً لعدم تحقيق غايات الثّورة واعتبار أنّ الدّمشقيين هم من دعموا فساد هذا النّظام. لا شكّ أن كل ما ذكره صديقي قد حصل يوماً ما لكنّني أشكّ أنّ هذه الوقائع كافية لتشكيل نمط عن الدّمشقيين وطباعهم.
    شخصيّاً، يمكنني أن أعترف أنّ الدّمشقيين لم يقدموا لي يوماً بعداً ثقافيّا أكثر مما قدّمه لي من أعتبرهم من أغنى الأشخاص ثقافيّاً والّذين احتضنتهم دمشق قادمين من كلّ المدن السوريّة فكيف لا يعتبر نفسه وكثيرين أهلاً بمدينةٍ تحتاج لثقافتهم وفنّهم وإبداعهم.

    وأخيراً أطلب من صديقي أن يثق بأنّ كلّ دمشقي له كرامة ومازال يحتفظ بعقله بعد كل ما فعلته هذه الحرب يحلم بأن تستعيد سوريا حرّيتها لنلملم جراحنا سويةً ونبني سوريا تتّسع لجميع السّوريّين وأنصحه إن أراد مرةً أخرى أن ينتقد الدّمشقيين فليسأل أحدهم فهو أدرى بعيوبهم.

    ملاحظة لا يقصد باستخدام لفظ الدمشقي أي تفريق وإنما هو إشارة لما ورد في المقال أعلاه و في حال كان هناك أي ما يشير للتفريق فالرجاء التوضيح فهو حتما غير مقصود

Leave a comment